من أطروحة "التدخل العمومي في ميدان التعمير بالمغرب"--أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق--الطالب: أحمد مالكي-وجدة
يعتبر التعمير الاستثنائي Urbanisme Dérogatoire، من حيث المبدإ، ضرورة تتطلبها دواعي التنمية الاقتصادية وتكييف
القاعدة مع معطيات الواقع، دون إغفال ما قد يلعبه الاستثناء من دور في تحريك الدينامية الاقتصادية لما يتسم به من مرونة وبساطة على الصعيد الإجرائي [1].
تأسيسا على ذلك، يظهر واضحا أن الفلسفة المتحكمة في هذا النمط من التعمير، في مقابل التعمير الأولي Urbanisme prioritaire، تنبني على رؤية تؤمن سيولة وانسيابية الحركة العمرانية وتجنب طابع الجمود والتشدد الذي قد يميز قواعد قانون التعمير.
إضافة إلى التخطيط العمراني، يعد التدبير العمراني بدوره ميدانا لإعمال مفاهيم التعمير الاستثنائي سواء من خلال القانون رقم 12.90 المتعلق بالتعمير [2]، أوالقانون رقم 25.90 بشأن التجزئات العقارية والمجموعات السكنية وتقسيم العقارات [3].
ويرى البعض في هذه المقتضيات رغبة من لدن المشرع المغربي في إضفاء نوع من المرونة على التدبير العمراني وتشجيع مسلسل البناء من جهة، ومواجهة التعمير الفوضوي والعشوائي من جهة ثانية [4].
إذا كان هذا الصنف من الاستثناءات لا يثير في الغالب أية مشاكل على الصعيد العملي والقانوني نظرا لاستناده على اعتراف قانوني صريح يضفي عليه صفة المشروعية، فإن التساؤلات المطروحة تبقى مرتبطة ببعض الاستثناءات التي تتم خارج القانون الأصلي، حيث تعد الدورية المشتركة رقم 27/3020 بخصوص شروط استفادة المشاريع الاستثمارية من استثناءات في مجال التعمير مثالا على ذلك.[5] فإذا كان صدور هذه الدورية قد ينم عن التشدد والتصلب الذي يميز أحيانا قواعد قانون التعمير بالمغرب فإن ذلك لا يشفع بإصدار دوريات لا تحترم مبدأ تدرج القوانين، لكون ذلك فيه مساس باستقرار البنيان القانوني وإفراغ التشريع الأصلي من محتواه طالما أن الغرض من الدوريات والمناشير يكمن في التفسير والتوضيح ولا يمكنها أن تقيد ما جاء به القانون أو تضيف إليه شيئا يتعارض مع مقتضياته، الأمر الذي نحا بجانب من الفقه والقضاء إلى عدم الاعتراف بقيمة وحجية الدورية.[6]
لا يعطي تشجيع الاستثمار للإدارة الحق في مخالفة القانون والمساس بالمبدإ الدستوري المتمثل في المساواة أمام القانون المنصوص عليه بموجب الفصل الرابع من دستور 13 شتنبر 1996[7] ، لأن من شأن ذلك تكريس وضعيات امتيازية قد لا تخلو من سلوكات وتصرفات زبونية وسياسية تفتقد للمشروعية والشفافية اللازمة. إلى جانب بروز تسامحات غير مبررة في كثير من الأحيان ، رغم أن القانون 12-90 المتعلق بالتعمير يفتح هامشا كبيرا من المرونة خاصة على مستوى الفقرة الأخيرة من المادة 19 التي تجيز لتصميم التهيئة أن ينص على التغييرات التي يمكن إدخالها على الأحكام الواردة فيه تطبيقا لمقتضيات البنود 1 و9 و11 من المادة المذكورة وذلك بمناسبة طلب إحداث تجزئة أو مجموعة سكنية.
من جهة أخرى، تفتقد هذه الدورية للتدقيق اللازم من خلال ارتكازها على معايير عامة وفضفاضة في انتقاء المشاريع الاستثمارية المستفيدة من مسطرة الاستثناء حيث ربطت الاستفادة بوجود انعكاسات للمشروع على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والعمراني، الأمر الذي يتوفر في جميع عمليات التعمير. فالسلطة التقديرية التي تتمتع بها الإدارة في هذا الإطار، قد تفتح الباب لتأويلات مصلحية واستعمال متعسف لقرار الاستثناء الذي غالبا ما يتجاوز العتبة المسموح بها. فضلا عن ذلك فإن هذا الصنف من القرارات لا يخلو من آثار سلبية على جودة الإطار العمراني والمحيط البيئي مما يفرغ دلالة التخطيط العمراني من مضمونه. ولا أدل على ذلك على سبيل المثال التراجع الملحوظ في الأراضي المخصصة للفضاءات الخضراء والمرافق العمومية بوثائق التعمير من جراء استعمال مغاير للأوعية العقارية المخصصة لها نتيجة تطبيق الدورية السالفة الذكر.
وإذا كان البعض يرى بأن مسطرة الاستثناء قد سمحت بتصحيح عدد من الإختلالات الموجودة في وثائق التعمير وساهمت في تسوية وضعية مشاريع استثمارية ما كانت لترى النور لولاها،[8] فإن ما أفرزته في المقابل من نتائج سلبية على المشهد العمراني يجعل بأسها يتجاوز بكثير منفعتها –إن كانت لها منفعة-. ويتمثل ذلك بالأساس في الزيادة في كثافة الأنسجة الحضرية دون الأخذ بعين الاعتبار المعايير المعمارية والتقنية بالإضافة إلى التأثيرات السلبية على البيئة والإخلال بسيرورة التطور العمراني لبعض المدن وغياب ضمان تجانس وثائق التعمير،[9] دون أن ننسى ما تخلفه من آثار همت بالأساس تكريس فقدان هبة القانون.
لقد نجحت الآدوات الموضوعة في عدم رفع دعاوى متعلقة بملفات الاستثمار إلى القضاء لكونها تتجنب كل ما من شأنه أن يفضي إلى نزاع بين الإدارة والمستثمر. فلم تتح بذلك الفرصة إلى تدخل القضاء ليساهم في تطوير التنظيم القانوني وكشف عدم شرعية مثل هذه الإجراءات.
فأمام كثرة مثل هذه الدوريات التي تتجاوز الصلاحيات المعمول بها، بات من الضروري البحث عن السبل القمينة بتدخل القاضي الإداري من تلقاء نفسه حفاظا على مبدإ المساواة ومبدإ الشرعية وحقوق الأفراد التي تمس بطريقة مباشرة وغير مباشرة.
لقد ساهمت هذه الآداة في خدمة المصالح المالية للمنعشين العقاريين الذي ينتظم أغلبهم في شركات خاصة تحترف العقار والذين لم يترددوا في تقديم العديد من طلبات حذف وتقليص المناطق الخضراء والتجهيزات العمومية وتغيير التخصيص لاسيما على مستوى الزيادة في معدل الكثافة وذلك دون تقديم أي بدائل ذات نفع جدي للجماعة، مستغلين أيضا المساطر الاستثنائية الأخرى الواردة في العديد من الرسائل الوزيرية الموجهة للوكالات الحضرية والإدارات المحلية للتعمير بشأن إيجاد الحل للملفات غير المقبولة أو ما يطلق عليها ب “الملفات العالقة” من أجل تمرير المشاريع التي ترفض في لجن الاستثناء[10]. وهكذا فإن استمرارية العمل بهذه الدورية منذ سنة 1999، حيث اعتبرت حينها الإجراءات المتخذة انتقالية،[11] لينم عن أزمة تشريع وغياب رؤية واضحة بشأن قضايا التعمير بالمغرب.
وصفوة القول، إن مجرد التأمل في مثل هذه الدوريات يدفعنا للتفكير في إعادة النظر في مناهج التعامل مع الاستثمار، وذلك بتنظيم المجال تنظيما قادرا على استيعاب مختلف مشاريع التنمية ذات الفوائد الاقتصادية والاجتماعية المؤكدة بجعل وثائق التعمير قابلة للتعديل والمراجعة كلما دعت الضرورة إلى ذلك حتى لا نجعل من الاستثناء قاعدة من جهة ونحترم بالتالي المسلمات القانونية المتمثلة في سيادة القانون ومبدأ التدرج وتوازي الأشكال وهو الأمر الذي يتطلب التدخل العاجل من أجل إضفاء الصبغة الشرعية على تطبيقها في الحدود المعقولة التي تعود بالنفع على الجميع.
إضافة إلى العواقب الوخيمة للتعمير الاستثنائي غير المقنن على التدبير السليم للعمران، يشكو هذا الأخير من هشاشة المراقبة ومحدوديتها كما توضح ذلك النقطة الموالية.
_________________________________
[1] البولماني سعيد: حماية البيئة من زاوية قانون التعمير. مداخلة في اليوم التشاوري والدراسي المنظم من طرف الوكالة الحضرية لسطات حول مشروع إعداد مدونة التعمير، الأربعاء 19 أبريل 2006 بكلية الحقوق بسطات ص :6.
[2] بخصوص قانون التعمير، فقد نص المشرع بواسطة المادة 46 من القانون والمادة 35 من المرسوم التطبيقي على إمكانية العمل بالاستثناءات في موضوع الترخيص الإداري بالبناء في العالم القروي، ويتجلى ذلك في جواز التخلي عن شرط الهكتار الوارد في المادة 34 من المرسوم ومنح رخصة البناء مهما بلغت مساحة القطعة الأرضية في الحالة التي يتعذر فيها توافر هذا الشرط بسبب حالة تقسيم المنطقة المعنية، وذلك بعد الحصول على موافقة لجنة مختصة تتولى التحقق من أن البناء المزمع إقامته لا تترتب عليه عمليات عمرانية متفرقة تهدد بوجه خاص مميزات المنطقة المذكورة.
ويسمح كذلك بالترخيص على وجه الاستثناء إذا كان الطابع التقني للمبنى المراد إقامته يستلزم مساحة تزيد على نسبة 1/50 من مجموع مساحة الأرض وعلوا يزيد على الحد الاقصى المحدد في 8.50 أمتار باعتبار كل تجهيز فوقي وذلك استنادا إلى المادة 36 من المرسوم السالف الذكر.
[3] نذكر على سبيل المثال المادة 21 التي تقضي بجواز تسليم الإذن في إحداث التجزئة دون القيام بجميع الأشغال المقررة في البند الأول من المادة 18 إذا كان ثمة ما يبرر ذلك، وكذلك الشأن بالنسبة للمادة 44 التي تسمح بإمكانية تسليم رخصة البناء بالتجزئة قبل انتهاء أشغال التجهيز إذا كان صاحب التجزئة هو الذي سيتولى بنفسه تشييد مبان في تجزئته.
[4] El Idrissi (Omar) : Evaluation des documents d’urbanisme à travers la dérogation : cas de la région Doukkala Abda, DESA en urbanisme et aménagement, université Hassan II- Ain Chok, F.L.S.H- Casablanca, 2004-2005, p : 32.
[5] تجدر الإشارة إلى أن هذه الدورية قد حلت محل الدورتين الوزيريتين عدد 254 و622 الصادرتين تباعا بتاريخ 12 فبراير 1999 و8 ماي 2001 المتعلقتين بالمساطر المتبعة في دراسة مشاريع الاستثمار، حيث تم تبرير إصدار هذه الدوريات بمايلي :
- جمود محتوى وثائق التعمير بالنظر إلى الظرف الإقتصادي والإجتماعي المتحول باستمرار،
- الظروف السيئة التي تنجز فيها وثيقة التعمير وثقل وثيرة مساطر دراستها والمصادقة عليها،
- التظلمات التي تنجم عن هذه الوثائق على مستوى العقار،
- عدم قدرتها على استيعاب حاجيات غير متوقعة وفرص الإستثمار التي تكون أحيانا مهمة ولا يجوز تجاهلها بالنسبة لبلد في طريق النمو كما هو الشأن ببلادنا،
- ارتفاع عدد المشاريع التي يتم البث فيها،
- عدم وجود جهاز للتحكيم بين الإدارة والمشتكين لإخراج المشاريع من الحالات المستعصية التي تعيشها،
- وجود عدد هام من الشكايات والتظلمات ضد الإدارة ومساطرها وثقل وثيرتها،
- غياب ضوابط لتشجيع الإستثمار،
- غياب جهاز إداري مكلف بإرشاد وتأطير المستثمرين،
- جمود التقنين وضخامته في العالم القروي،
- الرفض القطعي لكل المشاريع المتواجدة بمجالات غير مغطاة بوثائق قانونية.
عن تقرير أشغال اللجنة المختصة طبقا للدورية الوزيرة عدد 254 الصادر عن وزارة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان والبيئة، الرباط 2002 ص:12 و13. مشار إليه عند حسن فاطمي : مرجع سابق، ص 84.
[6] تلزم الإشارة في هذا الصدد أنه سبق للوزارة المكلفة بالإسكان والتعمير إعداد مشروع قانون تحدد بموجبه التدابير المؤقتة لتشجيع مشاريع التنمية ذات فائدة اقتصادية واجتماعية مؤكدة ، إضافة إلى مشروع مرسوم تطبيقي وهو ما يفسر إرادة البحث عن سند قانوني لموضوع التعمير الاستثنائي.
[7] فاطمي (حسن): التعمير الاستثنائي: دراسة مقارنة. رسالة دبلوم الدراسات العليا المعمقة في الحقوق، جامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية – أكدال، الرباط، الموسم الجامعي 2004-2005، ص: 230.
الوزارة المنتدبة المكلفة بالإسكان والتعمير، وثيقة التشاور بشأن مدونة التعمير، فبراير 2006، ص: 50.[8]
[9] Pour plus de détails, prière de voir : El IDRISSI (Omar) : Op, cit , p:128.
فاطمي حسن : مرجع سابق، ص: 252.[10]
[11] لقد جاء في الدورية عدد 254 مايلي :
En attendant ces réformes, et à titre transitoire, un certain nombre de mesures doivent être prises….
_____________________________________________________________________________